تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 70 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 70

70 : تفسير الصفحة رقم 70 من القرآن الكريم

** ثُمّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نّعَاساً يَغْشَىَ طَآئِفَةً مّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ الأمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنّ الأمْرَ كُلّهُ للّهِ يُخْفُونَ فِيَ أَنْفُسِهِم مّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىَ مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مُسْتَلئمو السلاح في حال همهم وغمهم, والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان, كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه} الاَية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا أبو نعيم وكيع, عن سفيان, عن عاصم, عن أبي رزين, عن عبد الله بن مسعود, قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان, وقال البخاري وقال لي خليفة: حدثنا يزيد بن زريع, حدثنا سعيد عن قتادة, عن أنس, عن أبي طلحة, قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد, حتى سقط سيفي من يدي مراراً, يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, وهكذا رواه في المغازي معلقاً, ورواه في كتاب التفسير مسنداً عن شيبان, عن قتادة, عن أنس, عن أبي طلحة, قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد, قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس, عن أبي طلحة, قال, رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس, لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً, عن محمد بن المثنى, عن خالد بن الحارث, عن أبي قتيبة, عن ابن أبي عدي, كلاهما عن حميد, عن أنس قال: قال أبو طلحة: كنت فيمن ألقي عليه النعاس, الحديث, وهكذا رُوِي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي: حدثنا أبوعبد الله الحافظ, أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب, حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي, حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي, حدثنا يونس بن محمد, حدثنا شيبان عن قتادة, حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إِلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} أي إِنما هم كَذَبة أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال, فإن الله عز وجل يقول: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم} يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله, ولهذا قال: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} يعني لايغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية} كما قال في الاَية الأخرى {بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا} إلى آخر الاَية, وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإِسلام قد باد وأهله, وهذا شأن أهل الريب والشك إِذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة, ثم أخبر تعالى عنهم أنهم {يقولون} في تلك الحال {هل لنا من الأمر من شيء} فقال تعالى: {قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك} ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إِسحاق: فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير, عن أبيه, عن عبد الله بن الزبير, قال: قال الزبير: لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره, قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله {يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا} لقول معتب, رواه ابن أبي حاتم. قال الله تعالى: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه, وقوله تعالى: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال {والله عليم بذات الصدور} أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر, ثم قال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إِنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: إِن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإِن من جزاء السيئة السيئة بعدها, ثم قال تعالى {ولقد عفا الله عنهم} أي عما كان منهم من الفرار {إن الله غفور حليم} أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم, وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله {ولقد عفا الله عنكم} ومناسب ذكره ههنا, قال الإِمام أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو, حدثنا زائدة, عن عاصم, عن شقيق, قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن: أبلغه أني لم أفر يوم حنين, قال عاصم: يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر, قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان, قال: فقال عثمان: أما قوله إِني لم أفر يوم حنين, فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: {إِن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إِنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم} وأما قوله إني تخلفت يوم بدر, فإِني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم, ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد, وأما قوله إِني تركت سنة عمر فإِني لا أطيقها ولا هو, فأته فحدثه بذلك.

** يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزّى لّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمّا يَجْمَعُونَ * وَلَئِنْ مّتّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد, الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب, لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم, فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم} أي عن إخوانهم {إذا ضربوا في الأرض} أي سافروا للتجارة ونحوها {أو كانوا غزى} أي كانوا في الغزو {لو كانوا عندنا} أي في البلد {ما ماتوا وما قتلوا} أي ما ماتوا في السفر, وما قتلوا في الغزو وقوله تعالى: {ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم} أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتهم وقتلهم, ثم قال تعالى رداً عليهم {والله يحيي ويميت} أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر, ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقدره, ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره {والله بما تعملون بصير} أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه, لا يخفى عليه من أمورهم شيء, وقوله تعالى: {ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون} تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضاً, وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه, وذلك خير من البقاء في الدنيا جَمْع حطامها الفاني, ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عز وجل, فيجزيه بعمله إن خيراً فخير, وإن شراً فشر, فقال تعالى: {ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}.